قضية تعذيب بشار عبد السعود: التعذيب يتحول إلى إهمال  

  

 

إن قضية بشار عبد السعود تعتبر محطة محورية في مسيرة مكافحة التعذيب في لبنان ومحاسبة مرتكبيها. بالفعل، فبعد أن صدر قرار اتهامي تاريخي عن قاضي التحقيق لدى المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت، والذي اعتبر أن الوقائع المساقة أظهرت أن عناصر المديرية العامة لأمن الدولة أقدموا على ضرب موقوفين وتعذيبهم وذلك بإنزال الالم الشديد بهم سواء بالركل، أو اللكم، أو الجلد، أو ممارسة أنواع أخرى من التعذيب كالتعليق من اليدين، ونجم عن هذا التعذيب موت أحد الموقوفين المدعو بشار عبد السعود، ما يوجب معه اتهام العناصر بالمادة الأولى من القانون 65/2017 البند /4/. 

عمدت المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت في حكمها الصادر بتاريخ 1/11/2024 الى تجاهل كل ما توصل اليه القرار الاتهامي من اثبات وفاة بشار السعود بسبب التعذيب الذي تعرض له، فهي اعترفت بحصول واقعة التعذيب، ولكن انكرت حصول الوفاة بسببه. فوفقاً لقرارها فإن وفاة بشار السعود ناتجة عن الاهمال المنصوص عليه في المادة 564 من قانون العقوبات اللبناني. 

لا بد من الاشارة هنا إلى أن هذا الحكم لم يصدر بإجماع هيئة المحكمة، بل صدر بموافقة رئيسها والضابطين من المديرية العامة لأمن الدولة، أما ضابط الجيش والقاضي العدلي فاعترضا على تعديل توصيف التعذيب.  

 

في هذا الحكم العديد من الثغرات لا بد من إثارتها: 

أولا"-تجاهل ما توصل إليه القرار الاتهامي من اثبات حصول الوفاة بسبب التعذيب 

ان القرار الاتهامي اثبت وبشكل واضح وصريح تعرض بشار السعود للتعذيب ووفاته بسبب ذلك، وقد استند لهذه الغاية على ادلة من الصعب دحضها وتخطيها، منها:  

-كشف عدة اطباء شرعيين على جثة بشار عبد السعود، وقد أكد طبيبان شرعيان، في تقريرهما وخلال الاستماع إليهما أمام المحكمة، أنّ وفاة بشار السعود ناجمة عن الضرب. 

- وقد ورد في القرار الاتهامي عند سرد الوقائع انه في 2/9/2022 توجه مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت إلى مستشفى تبنين الحكومي وقام بمعاينة جثة بشار عبد السعود والتقط لها صورا عدة وفيديو، وأثبت مشاهدته لأثار التعذيب الواضحة على مختلف أنحاء الجسد حتى الرأس. 

- اعتراف المدعى عليهم بصراحة تامة بلجوئهم المستمر إلى استعمال العنف والضرب. في حين كشف القرار الاتهامي دورا متميّزا لأحد العناصر المعروف بعصبتيه والذي تولى ضرب وركل وجلد بشار لدقائق معدودة قبل وفاته، تراوحتْ أدوار الآخرين بين مساعدته على تثبيت بشار أرضا أو تكبيله من الخلف أو الاكتفاء بالمشاهدة من دون أيّ تدخل أو اعتراض أو حتى الخروج من غرف التعذيب. وقد ورد في القرار الاتهامي التالي: لا يشترط لتحقق جرم التعذيب أن يكون للمدعى عليهم سلطة لوقف التعذيب، إذ كان بإمكانهم بكل بساطة الاعتراض على ما يحصل وأقله الخروج من غرفة التحقيق. 

- اعتراف العناصر أثناء التحقيقات أن عملية الضرب تمت بوجود ومشاهدة وموافقة الضابط المسؤول. 

فإن هذه الادلة وغيرها من التقارير والاعترافات تؤكد، لا بل تجزم، حدوث الوفاة بسبب التعذيب. 

ثانيا"-تغيير الوصف الجرمي للتعذيب واعتبار واقعة الوفاة ناتجة عن اهمال 

ان الوصف الجديد للأفعال المتمثل بالتعذيب غير المفضي الى الموت المنصوص عليه في المادة الاولى من قانون 65/2017 البند /1/ والتسبب بالموت عن اهمال المنصوص عليها في المادة 564 من قانون العقوبات اللبناني وذلك ما بين فاعلين ومتدخلين، لا يتناسب مع وقائع القضية واعترافات العناصر. 

اولا"، ان هذه المادة 564 من قانون العقوبات اللبناني  تفترض حصول الفعل عن غير قصد، إلا أن الضرب المبرح لشخص موقوف على كافة أنحاء جسمه، وفقاً لما ورد في القرار الاتهامي وعلى لسان أحد عناصر المديرية العامة لأمن الدولة الذي أفاد" أنه قام بضرب بشار السعود لمدة عشر دقائق على كافة أنحاء جسده وعلى رأسه"، لا يمكن وصفه بأنه اهمال او فعل عن غير قصد.  

ثانيا"، الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية عمد الى تحوير ما نسب الى المدعى عليهم، لا سيما من ناحية التوصيف القانوني للتعذيب وذلك دون اي تعليل واضح. فعلى سبيل المثال، بعد ان كان القرار الاتهامي قد اتهم الضابط المسؤول بموجب المادة الاولى من القانون رقم 65/2017 البند /4/ الذي يجرم التعذيب المفضي الى الموت، اكتف حكم المحكمة العسكرية الدائمة باعتباره متدخلاً في جريمة التعذيب غير المفضي الى الموت المنصوص عليه في المادة الاولى من القانون رقم 65/2017 البند /1/ وفي جريمة التسبب بالموت عن اهمال المنصوص عليه في المادة 564 من قانون العقوبات اللبناني. فمن ناحية، ان صفة المتدخل لا تتناسب مع ما ورد في القرار الاتهامي من اعترافات العناصر الذين أقروا ان عملية الضرب تمت بوجودـ، موافقة ومشاهدة الضابط المسؤول. ومن ناحية اخرى، وجود ادلة قاطعة تثبت وفاة بشار السعود بسبب التعذيب تجعل من الوصف الجديد للأفعال نوع من محاولة لتقليص من واقع التعذيب الذي كان ضحيته بشار السعود. 

 

ثالثا"- صلاحية المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت للنظر بقضايا التعذيب 

إن الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت النافي لحدوث الوفاة بسبب التعذيب أتى بعد أن كان القرار الاتهامي قد أكد صلاحية القضاء العسكري للنظر في قضايا التعذيب المرتكبة من قبل رجال الضابطة العدلية. فعلى الرغم من أن القرار الاتهامي كان له وقع مهم إذ وصف أفعال العناصر الأمنية بأنها تعذيب ينطبق عليها احكام القانون رقم 65/2017، إلا أنه خالف المعايير الدولية بإقرار صلاحية المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت للنظر بقضية مقتل بشار عبد السعود تحت التعذيب. 

إن المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في فقرتها الاخيرة تنص على أن القضاء العادي هو القضاء المختص للنظر في مخالفات الضابطة العدلية. وإذا كان البعض يعتبر أنه هناك التباس وتناقض في هذه المادة كونها تنص أيضاً على أن النائب العام التمييزي يطلب في حال وجود شبهة على حصول جرم جزائي أثناء التحقيقات الأولية من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت الادعاء بحق من يرتكبه (أمام القضاء العسكري بطبيعة الأمر)، إلا أن هذا التناقض يجب أن يفسر بطريقة منسجمة مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها لبنان والتي تنص على مبادئ المحاكمة العادلة والعدالة. فإن ضحايا التعذيب لا يمكنهم التقدم بدعاوى شخصية أمام المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت، ما ينتفي معه ضمانات المحاكمة العادلة خاصة في ظل غياب أي تعليل للأحكام الصادرة عنها. 

ولا بد من الإشارة، إلى أنه أصرت الغالبية النيابية على إلغاء المادة التي تخرج صلاحية النظر في جميع جرائم التعذيب من اختصاص المحكمة العسكرية أو التي تعفي من الحصول على إذن مسبق. وفيما برر البعض (ومنهم رئيس المجلس النيابي) إلغاء هذه المادة بأنها لزوم ما لا يلزم على ضوء المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تولي القضاء العدلي النظر في أي تجاوز ترتكبه الضابطة العدلية في سياق التحقيق في جريمة. 

 

إضافة إلى ذلك، إن الإقرار بصلاحية القضاء العسكري بالنظر في قضايا التعذيب يتنافى مع النية التشريعية والأسباب الموجبة للقانون رقم 65/2017 التي تؤكد على الصلاحية الحصرية للقضاء العدلي بالنظر في قضايا التعذيب. 

من هنا، ندعو حضرة المدعي العام التمييزي إلى استعمال حقه الوارد في المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية بإحالة كل دعاوى التعذيب إلى القضاء العدلي تماشياً مع روح الاتفاقيات الدولية ولسد الثغرة الموجودة في القانون رقم 65/2017 ، كما واستعمال الصلاحيات المعطاة لكم بموجب المادة 80 من قانون القضاء العسكري بالطلب من مفوض الحكومة لدى محكمة التمييز العسكرية بنقض القرار الصادر عن المحكمة العسكرية. 

اخيراً، نستغرب عدم تقديم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت بطلب  نقض الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت عملاً بالصلاحيات المعطاة له في المادة 74 من قانون القضاء العسكري، خاصة في ظل توثيقه للتعذيب الحاصل بالعين المجردة.